القصيدة التي هزت الأوساط الدعوية
د‚عائض القرني
يا أرضَ بالقرن مازلنا محبينا***لا البعدُ ينسي ولا الأعذارُ تثنينا
فسائلي الغيمَ كم أسقى معاطفَنا***وسائلي البرقَ كم أحيا مغانينا
لي فيكِ يا دوحةَ الأمجادِ ملحمةٌ***محفورةٌ في كتابٍ من ليالينا
يوم الصبا كقميصِ الخزِ ألبسُه***والروضُ اخضرُ مملوءٌ رياحينا
والرملُ لوحي وأقلامي غصونُ ندا***والربعُ يمطرهُ القمريْ تلاحينا
يا ارضَ بالقرن لو فتشتِ في خَلَدي***وجدتِ فيه أخاديدًا وتأبينا
جرحٌ من الحبِ يا بالقرن ما اندملتْ***أطرافُهُ باتَ يُقصينا ويُدنينا
قد زرتُ بعدكِ يا بالقرن كلَّ حمى***وطرتُ في الجو حتى جئتُ برلينا
فما رضيتُ سواكم في الهوى بدلاً***لأنني عاشقٌ دنياك والدينا
رأيتُ باريسَ في جلبابِ راهبةٍ***شمطاءَ قد بلغتْ في العمرِ سبعينا
وأنتِ في ريَعَان العمرِ زاهيةٌ***في ميعةِ الحسن إشراقاً وتكوينا
أتيتُ واشنطنًا لا طاب مربعُها***رأيتُ ساحتَها في الضيقِ سجِّينا
فلا نسيمَ كأرضي إذ يُصبِّحنا***ولا ندى الطلِ في الوادي يمسِّينا
ارضُ السنابلِ لا أرضَ القنابلِ يا***سِحْرَ الوجودِ ويا حرزَ المحبينا
يا روضةً طالما هزَّتْ معاطفَها***كأنها بتباشيرٍ تحيينا
وربوةٍ كم درجنا في ملاعبها***عهدُ الطفولة يزهو من أمانينا
والأربعون على خدي مروِّعةٌ***يا ليت أني أهادي سنَّ عشرينا
والغبنُ يكتب في أضلاعنا خطبًا***مدربُ القلف يعطينا تمارينا
يقتاتُ من لحمنا غصْبًا ويجلُدنا***ويستقي دَمَنا زورًا ويظمينا
وإن نظَمْنا بيوتَ الشعرِ نمدحه***يظل بالشَّعَر المفتولِ يلوينا
إذا اقترحنا على أيامنا طلبًا***ذقنا المنايا التي تطوي أمانينا
آهٍ على قهوةٍ سمراءَ نشربُها***في غرفةٍ من ضميمِ الطيِن تؤوينا
سِجادُها بحصيرِ النخلِ ننسجه***وريشُها بنقي الصوفِ يدفينا
بعنا الهمومَ بدنيانا صيارفةً***لسنا جباةً وما كنا مرابينا
لم ندّخِرْ قوتَنا بخلاً ليومِ غدٍ***لكل يومٍ طعامٌ سوف يأتينا
ونملأُ الضيفَ ترحابًا لننسيَهُ***ما غابَ من أهله عنه ويُنسينا
أمام غرفتِنا يجري الغديرُ على***صوتِ الحمامِ بأبياتٍ يُغنينا
قلوبُ أصحابِنا طُهْرٌ وسيرتُهم***مثلُ الزلالِ الذي في القيظِ يروينا
أيامَ لا كدلكٍ يعوي بحارتنا***ولا البواري تدوّي في نوادينا
واليومَ أموالُنا باتتْ تؤرقُنا***همًا وأولادُنا بالغمِّ تؤذينا
إذا رفعنا بآياتٍ عقيرتَنا***قالوا: غلوٌ وهذا خالفَ الدينا
وإن همسنا بحبٍّ في مجالِسنا***قالوا: يدبر أعمالاً لتردينا
وإن لبسنا بشوتًا عرَّضوا سفهًا***بأننا نزدهي فيها مرائينا
وإن تقشَّف منا صادقٌ ورِعٌ***قالوا: يخادِعُنا عمْدًا ويغوينا
إذا صمتنا اقضَّ الصمتُ مضجعَهم***وإن نطقنا شربنا كأسَنا طينا
إذا أجبْنا على الجوالِ أمطَرَنا***بالسبِّ مَنْ كان نغليه ويغلينا
وإن أبينا أتتنا من رسائله***مثل السعيرِ على الرمضاء تشوينا
قلنا لهم هذه الأشياءُ حلَّلَها***أبو حنيفة بل سُقنا البراهينا
قالوا: خرقتَ لنا الإجماعَ في شُبَهٍ***مِن رأيِك الفجِّ بالنكراءِ تأتينا
وإن ضحكنا أضافونا بسخرية***صفراءَ تملؤنا غبنًا وتذوينا
وإن بكينا لظلوا شامتين بنا***كأنهم وحدَهُم صاروا موازينا
تفردوا بخطايانا وأشغلَهُم***عن ذكرِ سُوئِهُمُ المُرْدي مساوينا
ويفرحون إذا زل النعال بنا***ويهزؤون بمن يروي معالينا
ولا يرون سوى أغلاطِنا أبدًا***فنقدُهُمْ صارَ في أهوائهم دينا
وشتْمُهُمْ هو محضُ النصحِ عندهمُ***وردُّنا هو زورٌ من مغاوينا
لحومُهُم عندنا مسمومةٌ أبدًا***ولحمُنا صارَ تحت النقدِ سردينا
فنحن عند الحداثيين قافلةٌ***من الخوارج نقفو النهجَ تالينا
أما الغلاةُ فإنا عند شيخهمو***لسنا ثقاتٍ وما كنا موامينا
ونحن في شرعِهِ خُنَّا عقيدتَنا***من بائعين مبادينا وشارينا
حتى السياسي مرتابٌ ولو حلفتْ***لنا ملائكةٌ جاءوا مزكينا
كم مولَعٍ بخلافي لو أقولُ له***هذا النهارُ لقالَ الليلُ يضوينا
إذا طلبنا جليسًا لا يوافقُنا***واديه ليس على قربٍ بوادينا
فتاجرٌ لاهثٌ ألهتْهُ ثروتُه***عبدَ الدراهمِ قد عادى المساكينا
وجاهلٌ كافرٌ بالحرفِ ما بصُرَت***عيناه سِفْرًا وما أمَّ الدواوينا
ومعْجَبٌ صَلِفٌ زاهٍ بمنصبه***تواضعٌ منه فضلاً أن يماشينا
فالآن حلَّ لنا هجرُ الجميعِ وفي***لزومِ منزِلِنا غُنْمٌ يواسينا
نصاحبُ الكُتُبَ الصفراءَ نلْثِمُها***نشكو لها صخَبَ الدنيا فتشكينا
تضمُّنا من لهيبِ الهجرِ تمطِرُنا***بالحبِّ تُضحِكُنا طورًا وتُبْكينا
ما في الخيامِ أخو وجدٍ نطارِحُه***حديثَ نجدٍ ولا خلٌ يصافينا
فالزمْ فديتُك بيتًا أنتَ تسكُنُه***واصمتْ فكلُّ البرايا أصبحوا عينا
شكرًا لكم أيها الأعداءُ فابتهجوا***صارت عداوتُكُم تينًا وزيتونا
علَّمتمونا طِلابَ المجدِ فانطلقتْ***بنا المطامحُ تهدينا وتعلينا
جزاكم اللهُ خيرًا إذْ بكم صلحت***أخطاؤنا واستَفَقْنا من معاصينا
دلَلْتُمونا على زلاتِنا كرمًا***وغيرُكُم بِسُكارِ المدحِ يُعمينا
فسامِحونا إذا سالتْ مدامعُنا***من لذعِ أسياطِكُم كنتم مصيبينا
تجاوزوا عن زفيرٍ من جوانِحنا***حلمًا على زفراتٍ في حواشينا
ثناءُ أحبابِنا قد عاقَ همتَنا***ولومُ حسادِنا أذكى مواضينا
ماذا لقينا من الدنيا وعشرتِها***عشاقُها نحنُ وهي الدهرَ تقلينا
على مصائبها ناحتْ مواجعُنا***ومن نكائدِها ذابتْ مآقينا
تغتالُنا بدواهيها وتنحرُنا***صارتْ مخالبُها فينا سكاكينا
والآن في البيتِ لا خِلٌّ نُسَرُّ به***إلا الكتابُ يناجينا ويشجينا