يقولُ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.
جاءَ في الحديثِ المُتَّفَقِ عليهِ من طريقِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ: "كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ" ومعنى قولِهِ"يُولَدُ على الفِطرَةِ" أي على مُقْتَضَى العَهْدِ الذي أُخِذَ عليهِ يومَ أَخْرَجَ اللهُ أرواحَ بَنِي ءادَمَ من ظهرِ ءادَمَ عليهِ السلامُ فاستَنْطَقَهُم قالَ: ألسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا: بَلى لا إلـهَ لنا غيرُكَ.
إنَّ تربِيةَ الأولادِ مِنْ أهمِّ الأُمورِ وأوكَدِها، فالولَدُ أمانَةٌ عندَ والِدَيْهِ وقلبُهُ جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كلِّ نقشٍ وهو قابِلٌ لكلِّ ما نُقِشَ، ومائِلٌ إلى كلِّ ما يُمالُ بهِ إليهِ فإِنْ عُـوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَهُ نَشأَ عليهِ وسَعِدَ في الدُّنيا والآخرةِ، وشارَكَهُ في ثوابِهِ أبواهُ وكلُّ معلمٍ لهُ ومؤدِّبٍ، وإنْ عُـوِّدَ الشرَّ وأُهْمِلَ إِهمالَ البهائِمِ وشَبَّ على ذلكَ شَقِيَ وهَلَكَ وكان الوِزْرُ في رَقَبَةِ القَيِّم عليهِ. وصيانَةُ الأولادِ تكونُ بتأديبِهِم وتهذيبِهم وتعليمِهم محاسِنَ الأخلاقِ وبحفظِهم من قُرَناءِ السوءِ وما أكثرَهم في هذهِ الأيامِ.
ولا يعوِّدُهُمُ التَّنَعُّمَ ولا يُحَبِّبُ إليهمُ الزِّينةَ وأسبابَ الرّفاهِيَةَ فيضيعُ عمُرُهُ في طلَبِها إذا كَبُرَ، وينبغي مراقَبَتُهم من أولِ أمرِهم ويرُاقبُ طبعُهُ فإن كانَ يَحْتَشِمُ ويستَحِي من شئٍ دونَ شئٍ ويتركُ بعضَ الأفعالِ فهذهِ بِشارةٌ تَدُلُّ على اعتدالِ الأخلاقِ وصفاءِ القلبِ وهو مبشَّرٌ بكمالِ العَقْلِ عندَ البلوغِ فينبغي أن يُستعانَ على تأديبِه بِحيائِه.
وأوَّلُ ما يغَلُبُ على الولدِ بعدَ سنتينِ أو ثلاثِ سنواتٍ شَرَهُ الطعامِ فينبَغي أن يُؤَدَّبَ فيهِ، مثالُهُ أن لا يأخُذَ الطعامَ إلا بِيمينِهِ وأن يقولَ عليهِ: "بسم الله" عند تناوُلِه، وأنْ يأكُلَ ممّا يليهِ وأن لا يبادِرَ إلى الطعامِ قبلَ غيرِه وأن لا يُحَدِّقَ النظرَ إليهِ ولا إلى من يأكُلُ وأن لا يُسرِعَ في الأكلِ، وأن يُجِيدَ المضغَ ولا يلطِّخَ يدَهُ وثوبَهُ، وأن يُعَوَّدَ الخبزَ والماءَ في بعضِ الأحيانِ حتى لا يصيرَ يرى اللّحمَ حتماً، وأن يُقَبَّحَ عندَهُ كثرةُ الأكلِ ويُمْدحَ عنده الصبيُّ المتأدِّبُ القليلُ الأكلِ، ويحبَّبُ إليهِ قلةُ المبالاةِ بالطّعامِ والقناعةُ بالقليلِ منهُ، ويُحَبَّبُ إليهِ من الثيابِ الأبيضُ، ويُحْفظُ عن الصِّبْيَةِ الذين عُوِّدوا التّنعمَ والرّفاهيةَ ولبسَ الثيابِ الفاخرةِ.
ولْيعلَمْ أن الصبِيَّ الذي يُهْمَلُ في ابتداءِ نشوئِهِ يخرُجُ في الأغلبِ رديءَ الأخلاقِ، ويُحْفَظُ عن ذلكَ بحُسْنِ التأديبِ، ثم لما يَبْلُغُ سِنَّ التمييزِ يُشْغَلُ بتعلُّمِ علمِ الدين، وأولُ ما يعلَّمُ تنـزيهُ اللهِ عن مُشابَهَةِ المخلوقينَ وما يتبعُ ذلكَ في الاعتقادياتِ ثم يُعلَّمُ أحكامَ الطهارةِ والصّلاةِ ويؤمر بها وبالصومِ، ثمّ يُعلمُ بعضَ ما يحرُمُ على البطنِ واللسانِ واليدِ والرجلِ والعينِ والقلبِ والأبدانِ ويخوَّفُ منها، ولا يقالُ ما يقولُهُ بعضُ الجهلةِ من الناسِ "ما يزالُ صغيراً لا يَعِي ما تُعطونَهُ إياهُ" فهؤلاءِ يقالُ لهم ما قالهُ الإمامُ الغزاليُّ في كتابِهِ "إحياء علوم الدين" بعد أنْ ذكرَ مسائلَ الاعتقاديات:
واعلم أن ما ذكرناهُ فينبغِي أن يُقدَّمَ إلى الصبيِّ في أوَّلِ نشوئِهِ فيَحْفَظُهُ حِفْظاً ثم لا يزالُ ينكشِفُ لهُ معناهُ في كِبَرِهِ شيئاً فشيئا " إ.هـ
ثم يعلَّمُ القرءانَ وأحاديثَ الأخيارِ وحكاياتِ الأبرارِ وأحوالَهم ليَنْغَرِسَ في نفسِهِ حبُّ الصّالحين، ولما يظهَرُ منهُ الخُلُقُ الجميلُ والفعلُ المحمودُ ينبغي أن يُكرمَ عليهِ ويُجازَى عليهِ بما يفرحُ بهِ .
فإنْ خالَفَ مرةً واحدةً فينبغي أن يُتَغَافَلَ عنهُ ولا يُهتَكَ سترُهُ ولا سيّما إذا سترَهُ الصَّبِيُّ واجتهدَ في إخفائِهِ فإنَّ إظهارَ ذلك عليهِ ربما يزيدُهُ جسارةً حتى لا يُباليَ بالمُكاشَفَةِ، فعندَ ذلك إن عادَ ثانيةً فينبغي أن يُعاتَبَ ويقالَ لهُ إياكَ أن تعودَ لِمِثْلِ هذا، ولا تُكثرُ عليهِ بالعِتابِ في كلِّ حينٍ فإنَّهُ يَهُونُ عليهِ سماعُ المَلامَةِ ويسقُطُ وَقْعُ الكلامُ في قلبِهِ، ويُعوَّدُ أن لا يفتَخِرَ على أقرانِهِ بشئٍ مما يملِكُهُ والداهُ، ويُمْنَعُ من لغوِ الكلامِ وفُحْشِهِ والسبِّ ومن مُخالطَةِ من يجرِي على لسانِهِ شئٌ من ذلكَ، فإن ذلك يَسْري لا محالةَ مِنْ قُرَناءِ السوءِ والأصلُ في التأديبِ الحفظُ من قُرَناءِ السوءِ.
ويُعَلَّمُ طاعةَ والديهِ ومعلِّمِهِ ومؤَدِّبِهِ وأنَّ الموتَ يقطَعُ نعيمَ الدنيا فهذه دارُ مَمَرٍ لا دارَ مقرٍ، وأما الآخرةُ فهي دارُ المقرِّ، وأنَّ الموتَ منتظِرٌ في كلِ ساعةٍ، وأن الكيِّسَ العاقِلَ من تزوَّدَ من الدُّنيا إلى الآخرةِ.
قالَ سهلُ بنُ عبدِ اللهِ التستريُّ الوليُّ العارِفُ باللهِ: كنتُ وأنا ابنُ ثلاثِ سنين أقومُ بِاللَّيلِ فأنظُرُ إلى صلاةِ خالي محمدٍ بنِ سِوار فقالَ لي يوماً: ألا تَذْكُرُ اللهَ الذي خلَقَكَ.
فقُلْتُ: كيفَ أَذكُرُهُ.
قالَ : قلْ بِقَلبِكَ عندَ تَقَلُّبِكَ في ثِيابِكَ ثلاثَ مراتٍ من غيرِ أن تحَرِّكَ بهِ لسانَكَ: اللهُ عالمٌ بي، اللهُ ناظرٌ إليَّ، اللهُ شاهِدٌ.
فقلتُ ذلكَ ليالٍ ثم أعلمتُهُ فقالَ: قل في كلِّ ليلةٍ سبعَ مراتٍ. فقلتُ ذلك ثم أعْلَمْتُهُ فقالَ: قل ذلكَ كلَّ ليلةٍ إحدى عشرةَ مرةً.
فقُلْتُهُ فوقَعَ في قلبي حلاوَتُهُ فلمّا كان بعدَ سنةٍ قالَ لي خالي: احفظ ما علَّمْتُكَ ودُمْ عليهِ إلى أن تَدْخُلَ القبْرَ فإنهُ ينفعُكَ في الدنيا والآخرةِ فلم أزَلْ على ذلكَ سنينَ فوجَدْتُ لذلكَ حلاوةً في سرِّي ، قالَ لي خالي يوما: يا سهل من كان اللهُ عالماً به وناظراً إليه أيعصيهِ؟ إياكَ والمعصية.
ثم بعَثُوا بي إلى الكُتَّابِ فتَعلمتُ القرآنَ وحفظتُهُ وأنا ابنُ ستِ سنينَ أو سبعِ سنين وكنتُ أصومُ الدّهرَ وقوتي من خبزِ الشعيرِ بغيرِ الملحِ ولا أدم، ثم خرجت أسيحُ في الأرضِ سنينَ ثم رَجَعْتُ إلى " تستر" وكنتُ أقومُ الليلَ كلَّهُ ما شاءَ اللهُ تعالى.
وقـالَ أحمدُ ابنُ حنبل: فما رأيتُهُ أَكَلَ الملحَ حتى لَقِيَ اللهَ تعالى.
انظروا إلى حالِ هذا الإنسانِ الذي كان ذا رِفعةٍ ودرجةٍ عند اللهِ تعالى، وهكذا يكونُ حالُ من نَشأَ النَّشْأَ الصَّالِحَ والتربيةَ الشرعيةَ الصّحيحةَ، فاسْعَوْا إلى تربيةِ أولادِكم على ما يُرضي اللهَ تبارك وتعالى وتذكَّروا قولَ النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إذا ماتَ ابنُ ءادمَ انقطَعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وولدٍ صالحٍ يدعو له".
وهذا الأخيرُ في الأغلبِ لا يكونُ بدونِ عملٍ وجهدٍ من الوالدينِ، فلا يتذرَّعُ الواحدُ منّا بالانشغالِ وكثرةِ الهمومِ والبلاءِ والمصائِبِ لأن تربيةَ الأولادِ أحقُّ بأنْ يُفَرِّغَ لها الوالدانِ الجهدَ والوقتَ المطلوبَ