نزار قباني والقصيدة التي فجرت الشارع العربي
" لم أعد أتذكر الآن تفاصيل الولادة العسيرة لقصيدة " هوامش على دفتر النكسة ". كل ما
أذكره أن أوراقي ، و شرارف سريري كانت غارقة في الدم .. وأن زجاجات المصل التي كانت مثبتة فوق ذراعي لم تكن تكفي لتعويض الدم المهدور " .
هكذا يصف نزار قباني حالته وهو يكتب قصيدة " هوامش على دفتر النكسة " الذي نشرها في أعقاب هزيمة الجيش المصري في عام 1967. و التي أقامت الدنيا و لم تقعها .
ونال نزار بسببها أقسى هجوم من النقاد المصريين و العرب. كما منعت كل كتبه ودواوينه و أغانيه التي كانت تملأ الإذاعة المصرية ليلا و نهارا .
ويعتبر نزار بأنه كتب هذه القصيدة وهو في حالة عصيبة عنيفة وهذا مخالف لكل تقاليده الكتابية الصارمة ولذلك جاءت بشكل شحنات متقطعة وصدمات كهربائية متلاحقة تشبه صدمات التيار العالي التوتر.
و يقول نزار : كما أنها من حيث الشكل لم تكن تشبه أيا من قصائدي الماضية كانت مثلي مبعثرة و متناثرة كبقايا طائر الفينيق غير أن حزيران كان شهرا بلا منطق لذلك فان الكتابة عنه هي الأخرى يجب أن تكون بلا منطق .
نشرت القصيدة أول ما نشرت في مجلة ( الآداب ) اللبنانية و لم يكن نزار نفسه متأكدا أن صديقه (سهيل إدريس) سوف ينشرها لكنه نشرها رغم تحذير نزار له قائلا : إن هذه القصيدة من نوع العبوات الناسفة التي قد تحرق مجلتك آو تعرضها للإغلاق آو المصادرة و كان لا يريد أن يورط صديقه آو يكون سبيا في تدمير المجلة .
ونشر القصيدة عندما أصر سهيل إدريس على نشرها وصدقت توقعات نزار إذ صودرت المجلة وأحرقت أعدادها في أكثر من مدينة عربية وتعجب نزار وقتها و قال : إنني ارثي لهذا الوطن الذي لم تعلمه الهزيمة أن يفتح أبوابه للشمس و الحقيقة .
لكن ما حدث بعد ذلك كان اغرب من الخيال فقد انتصرت القصيدة بشكل رهيب كمنشورات تنسخ سرا و توزع على الموظفين في مكاتبهم الرسمية وللطلاب في جامعاتهم و للجنود في وحداتهم.
وبدأت ردود الفعل تأتي من كل مكان في الوطن العربي قبلات من هنا و شتائم من هناك أزهار من هذا و أشواك من ذاك غزل من صوب وطلقات رصاص من صوب أخر تقديس من فئة و تكفير من فئة أخرى.
و استمرت القصيدة - الأزمة – تتفاعل في الوجدان العربي سلبا و إيجابا كما استمرت رسائل القراء و تعليقاتهم تتدفق على الصحف و المجلات قرابة ستة أشهر.
واتهم نزار خلال هذه المحنة بخمسة اتهامات أساسية ..
الأول: انه شاعر وهب روحه للشيطان و للمرأة و للغزل الفاحش فلا يحق له أن يكتب شعرا وطنيا.
الثاني : انه المسؤول الأول عن هزيمة يونيو 67 بما نشره خلال عشرين عاما من شعر عاطفي ساعد على الانحلال .
الثالث : انه في ( هوامش على دفتر النكسة ) سادي يعذب آمته و يرقص فوق جراحها .
الرابع : انه يشبط الهمم و يقتل الأمل .
الخامس: انه ليس وطنيا لكنه يركب موجة الوطنية وولادته بعد يونيو 67 كشاعر ثوري ولادة غير طبيعية.
و كان السؤال الذي يتردد في تلك الفترة أصدقاء نزار إليه شخصيا هو:
إلى متى ستستمر في عملية الجلد العلنية التي بدأتها بــ " هوامش على دفتر النكسة " وأكدتها في ( الممثلون ) و ( الاستجواب ) و ( الخطاب ) و ( الوصية ) و ( حوار مع أعرابي أضاع فرسه ) و ( بانتظار جودو ) أليس هناك أسلوب آخر لتاريخ يونيو 67 ؟
و كان يجيبهم قائلا :
لقد صفقنا و نحن جالسون في صالوناتنا المكيفة الهواء للمغامرة وانتهى الأمر شاهدنا الفيلم البوليسي على التليفزيون ونمنا لذلك أعتبر الجلد عن طريق الشعر من أخف العقوبات بالنسبة لعالم عربي ما زال منذ حزيران ( يونيو ) 67 يتفرج على المسلسلات التليفزيونية و يتعاطى حبوب النوم ونشرات الأخبار و ( مورفين ) ما يطلبه المستعمرون .
هذا العالم هو الذي اكتب عنه انه عالم مصاب بالشلل النصفي و فقدان الذاكرة فإذا كنت قد صرخت بوجهه هذا الصراخ الذي وصل إلى حد الهمجية فلان الإنسان لا يصرخ عادة إلا حين تكون مساحة الجرح اكبر من مساحة الطعنة و كمية دموعه أكبر من مساحة عينيه .
/ لقيصر / مدريسة / تيارت /