القدوة الحسنة هي من أفعل الوسائل وأقربها للنجاح وأكثرها فاعلية في حياة المربين ... وتظل كلمات المربين مجرد كلمات ويظل المنهج مجرد حبرا علي ورق .. ويظل معلقا في الفضاء .. ما لم يتحول إلي حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض .. وما لم يترجم إلي تصرفات وسلوك ومعايير ثابتة ، عندئذ يتحول هذا المنهج إلي حقيقة واقعة ، وتتحول هذه الكلمات إلي سلوك وأخلاق عندئذ فقط تؤتي الكلمات ثمارها في حياة المربين .
ولقد علم الله سبحانه – وهو يضع ذلك المنهج العلوي المعجز – أنه لابد من قلب انسان يحمل هذا المنهج ويحوله إلي حقيقة ، لكي يعرف الناس أنه حق .. ثم يتبعوه
لابد إذن من قدوة ..
إن القدوة الصالحة عنصر رئيس ذو أهمية بالغة في البناء والتربية .. كما أنها ليست وحدها الكفيلة في بناء الأشخاص وتربيتهم فهناك جوانب أخري يجب مراعتها في العملية التربوية إلا أن هذه الجوانب الأخرى لا تؤتى ثمارها أيضا بغير القدوة الصالحة ، بل قد تأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة . فالقدوات التي يغلب عليها الجانب النظري أو الفكري ويضعف عندها الجانب العملي والروحي والدعوي هي فتنة للمتعلمين والمتربين .. ولهذه الشخصيات تأثيرها السلبي على المسيرة التربوية ، حيث يصبح مألوفا أن نقرأ ونتعلم ثم نتكلم أو نكتب ، ولا يهم بعد ذلك أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأعمالنا وبذلنا على نفس الدرجة التي يوحي بها كلامنا أو شهرتنا .
ومثل هذه الشخصيات لا تؤثر مواعظها في القلوب كما قال مالك بن دينار رحمه الله ( إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا ). وعن عبدالله بن المبارك قال : قيل لحمدون بن أحمد : ما بال السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق .
ودعوة الإسلام لم تعرف في تاريخها المشرق وظيفة العالم أو المفكر الذي لا علاقة له بمتاعب العمل والبذل والعطاء .. فالذي يحرك الأمة في الحقيقة هم الدعاة والمربين الذين يفعلون ما يقولون
إن هؤلاء القادة المربين البارزين في علمهم وفكرهم مع قلة عبادتهم وبذلهم وتضحياتهم وضعف سلوكهم لا يمكن أن تنمو في ظلهم دعوة قوية تغير الأمة ، بل هم بهذه التركيبة الخطيرة يقتلون فيمن حولهم كثيرا من المعاني السامية الجميلة من صفاء القلوب وقوتها وصدق المحبة والأخوة وحسن العبادة والإقبال عليها ، والاستقامة والورع ، والبذل والعطاء والتضحية والحياة للدعوة .. نعم يقتلون كل هذه المعاني حين يراهم هؤلاء وهم القادة المربون المشار إلى علومهم وأفكارهم .
إن القدوة الصالحة من أعظم المعينات على بناء العادات والأخلاق والسلوكيات الطيبة لدى المتربى حتى إنها لتيسر معظم الجهد في كثير من الحالات ، والإسلام لا يعتبر التحول الحقيقي قد تم سواء من قبل المربِي أو المتربى حتى يتحول إلي عمل ملموس في واقع الحياة .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم – قدوة للناس في واقع الأرض .. يرونه – وهو بشر منهم – تتمثل فيه هذه الصفات والطاقات كلها فيصدقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين ولا يقرأونها في كتاب ! يرونها في بشر فتتحرك لها نفوسهم وتهفو لها مشاعرهم ويحاولون أن ينهلوا منها .. كل بقدر ما يطيق أن ينهل وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود . لا ييأسون ولا ينصرفون ولا يدعونه حلما مترفاً لذيذاً يطوف بالأفهام .. لأنهم يرونه واقعاً يتحرك في واقع الأرض كما يرونه سلوكا عمليا لا أمانى في الخيال .
لقد كان صلى الله عليه وسلم أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل . وكان مربيا وهاديا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بكلامه فعن طريقه – صلى الله عليه وسلم – أنشأ الله هذه الأمة التي يقول فيها سبحانه " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " سورة آل عمران 110
لقد بعثه الله قدوة للعالمين .. وهو أعلم حيث يجعل رسالته . وأعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير وقد جعله الله القدوة الرئدة للبشرية يتربون علي هديه ويرون في شخصه الكريم الترجمة الحية للقرآن ، فيؤمنون بهذا الدين علي واقع تراه أبصارهم محققا في واقع الحياة .
لقد كان – صلى الله عليه وسلم – قدوة جعلها الله متجددة علي مر الأجيال والله سبحانه لا يعرض علينا هذه القدوة للإعجاب السلبي والتأمل التجريدي في سبحات الخيال إنه يعرضها علينا لنحققها في ذوات أنفسنا وذوات من نقوم علي تربيتهم ، ومن ثم تظل حيويتها دافقة شاخصة ولا تتحول إلي خيال مجدد تهيم في حبة الأرواح دون تأثر واقعي ملموس ولا اقتداء .
والإسلام يرى أن القدوة معلم أساسي وقاعدة أساسية للتربية ابتداءً من مرحلة الطفولة إلي أن يحملوا أمانة هذا الدين .
فلابد اذن للمجتمع من قدوة في مربيهم وقادتهم تتحقق فيهم المبادئ وينسج علي منواله المربين .
نعم على المربي أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين ، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية ، ويتحرى الصدق في المواقف ، والإخلاص في النية ، ومالم يستمد قادة الدعوة ومربيها نورهم من مشكاة النبوة وأخلاقهم من أخلاق النبوة ، ويصبحوا كالصحابة نجوما يهتدي بهم في ظلمات هذه الأيام فإن دعوتهم ستبقى ناقصة .
هذا المعلم أو هذا الأساس - القدوة – الذي هو من أهم أسس التربية والذي لن يفيدنا كثيرا إلا بعد أن نراه مطبقا بالفعل ويفيدنا أكثر أن نراه مطبقا في أعلى صوره لأن ذلك سوف يعطينا فكرة عملية عن المدى الذي يمكن أن يبلغ إليه هذا العنصر لنقيس به جهدنا إليه في كل مرة ونحاول المزيد .
وجانب القدوة المتمثل في شخصه – صلي الله عليه وسلم – لن يتكرر في أي جيل آخر لكن لدينا سيرة مفصلة لحياته - صلي الله عليه وسلم - كأنه حى بين ظهرانينا . ولئن أثر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بشخصه في بناء هذا الجيل الفذ الفريد فإن سيرته التي بين أيدينا تفرض علينا أن نكون كالجيل الأول وهذا الذي حدث لجيل التابعين فهو لم يشهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإنما سمع سيرته كما نقرؤها أو نسمعها نحن.
يقول الشاطبي ( إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق ) الموافقات 3/ 317
صدق والله فكم من دعاة ومربين أشعلوا حماسا وأحيوا فينا حب العمل والمثابرة والجد و الصبر ثم ما لبثوا أن سقطوا من أعيننا ومن أعين أتباعهم في لحظات بسبب كلمة أو تصرف لم يكن متناسبا مع مكانتهم كقدوات للآخرين وما الذي جعل أحمد بن حنبل إماما للسنة إلا بصبره في المحنة وإحيائه عقيدة السلف .
فها هو أبو جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة ( فعبر الفرات فإذا هو جالس في الخان ، فسلم عليه وقال : يا هذا ، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبت إلي خلق القرآن ليجيبنك بإجابتك خلق من خلق الله وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل - يعني المأمون – إن لم يقتلك فأنت تموت ، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلي شيء . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما قلت فأعاد عليه فجعل يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله ) مناقب الإمام أحمد 314 .
وتمر الأيام عصيبة على الإمام أحمد ، ويمتحن فيها أشد الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له ( يا أستاذ قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فقال أحمد : يا مروزي اخرج ، انظر أي شيء ترى . قال فخرجت إلي رحبة دار الخليفة فرأيت خلقا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعهم فقال لهم المروزي : أي شيء تعملون ؟ فقالوا : ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي : مكانكم
فدخل إلي أحمد بن حنبل فقال له : رأيت قوما بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال : يا مروزي أضل هؤلاء كلهم ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء ) مناقب الإمام أحمد 330
ونذكر هنا بعضا من أبرز الجوانب لتفعيل القدوة في حياة المتربى وجعله من المستويات الجيدة الفعالة في الدعوة إلي الله .
1- الإيمان بالفكرة :
إن ايمان المربي بالفكرة التي يتحرك من خلالها ويؤمن بها لهي من أهم الأسباب لاستقرار المتربى وسيره قدما في طريق الدعوة فلا يمكن بحال أن تثمر العملية التربوية إذا كانت من أشخاص لديهم غبش أو تزعزع في الفكرة التي يحملونها أو عدم وضوح في صحة الطريق الذي يسلكونه ونحن هنا لا نتكلم عن صحة الفكرة أو صواب الطريق نحن نتكلم عن الأصوب سواء فيم يتعلق بالفكرة التي يحملها المربي أو فيما يتعلق بصحة الطريق الذي يسلكه .
فمن يسير في طريق يصل من خلاله لرضا ربه وتعبيد الناس لرب العالمين ينبغي أن تكون رؤية هذا الطريق واضحة تماما معالمها وأساليبها وأهدافها ، ومن ثم فعلي من يرى في نفسه أهلية لممارسة عملية البناء التربوي لدى اخوانه أن يسعى حثيثا لفهم ووضوح الفكرة التي ينطلق من خلالها .
والايمان بالفكرة التي يحملها المربي والفهم الجيد لصحة الطريق الذي يسلكه لا تتكون في نفس المتربى حتى يكون هو أو من يؤمن بما يقول ، ثم يترجم هذا إلي عمل .. ومن ذلك يقول سيد قطب رحمه الله : آمن أنت أولا بفكرتك ، آمن بها إلي حد الاعتقاد الجاد ! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون
وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة ! لا حياة لفكرة لم تتقمص روح انسان ، ولم تصبح كائنا حيا دب على وجه الأرض في صورة بشر
2- تعلم العلم :
إذا كان العلم ضروريا لكل مسلم ، فالداعية القدوة هو أكثر الناس حاجة لتعلم العلم ، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : ( تعلموا قبل أن تسودوا ) فتح الباري 1/165
فالسيادة في الدعوة تحتاج إلي علم يتأكد فيه القدوة من صحة خطواته ، ويصحح فيه خطوات الآخرين .
إن المربي ينبغي أن تكون فيه صفات معينة تؤهله لهذه المهمة الخطيرة ، فينبغي أن يشعر الشخص الذي يتلقى التربية أن مربيه أعلى منه وأنه منه – بالطبيعة – في موقف الآخذ المتلقي ، لا في موقف الند ولا في موقف أعلى من موقف المربي .
هذه حقيقة نفسية تعمل عملها تلقائيا في النفوس ! فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي ، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى أو المساوي فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس والعلو أمر شامل يشمل مسائل كثيرة فقد يكون علوا روحيا ، أخلاقيا أو يكون تفوقا علميا وهو المعني هنا ، فعلى المربين أن يهتموا ببناء أنفسهم بناءً علميا رصينا قويا حتى لا يقف المربي عند حد معين ومن ثم تقف الدعوة ككل وتعجز عن أن تعطي أفضل ما لديها أو تهتم بتنمية المواهب والقدرات الفذة لأن ما عندها أصبح لا يكفي للكبار فتدور الدعوة في حلقة مفرغة حول موضوعات لا يخرجون منها لأن قادتها ومربيها ليس لديهم ما يؤهلهم بالنهوض بالدعوة والتقدم بها قدما ومن ثم فعلى أي حركة تريد أن يكتب لها النجاح أن تكون من خطتها تربية كوادر علمية تتسم بالفهم والعمق وإلا فالفشل والسير في المحل والواقع يحدثنا عن دعوات مر عليها سنين إلا أن أجيالها تتآكل وصفوفها تتساقط لأن ليس لدى قادتها ومربيها ما يؤهلهم للسير قدما في طريق الدعوة ويبدأ هؤلاء القادة والمربين في تربية جيل جديد هم على قناعة أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا بهم إلي مرحلة البناء الكامل للنهوض بهذه الأمة .
إن تربية الكبار هي من أشق وأدق الأشياء في العملية التربوية فجيل الكبار الذي أصبح على درجة من الوعي والثقافة والعلم في حاجة إلي قيادة وزعامة يحس الكبار أمامها أنهم أصغر من قادتهم ومربيهم وأنهم في موقف التلقي منهم لا في موقف الند ولا في موقف التوجيه .
وليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي - وهي البديهية الأولى في التربية-
إنما أن تكون عنده حصيلة علمية بمفهومها الشامل يعطيها للآخرين من خلال علمه الذي ثابر على تحصيله ومن خلال تجربته الواقعية ومن خلال حركته بهذا الدين .
3- الابتعاد عن المباحات :
يقول الامام بن القيم : قال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية ( قدس الله روحه ) في شيء من المباح : هذا ينافي المراتب العلية ، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة . ثم يقول ابن القيم ( فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام) مدارك السالكين 2/26 .
إنها الصيانة التي نريدها للداعية القدوة وهو يزاول عملية الصعود في مدارك السالكين فحذار وأنت تصعد أن تستهويك بعض مناظر الأرض الجذابة ، فتقف برهة تلتفت للوراء لإشباع رغبة النظر فتتأخر عن الصعود ، ذلك إن لم تهو إلي الأرض بعد أن صعدت منها .
وعملية الصعود هذه علم كيف يتقنها ( يحى بن يحى ) الذي أهداه الامام مالك جزاء على ذلك لقب ( عاقل أهل الأندلس ) وذلك أنه رحل إلي الإمام مالك وهو صغير وسمع منه وتفقه ( وكان مالك يعجبه سمته وعقله ، روى أنه كان يوما عند مالك في جملة اصحابه إذ قال قائل : قد حضر الفيل ،
فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره ( أي وبقى يحى مكانه ) فقال له مالك : لم تخرج فترى الفيل ، لأنه لا يكون بالأندلس ، فقال له يحى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك و علمك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه ( عاقل أهل الأندلس ) طبقات الفقهاء 152
إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب .. ولكن وقت الداعية القدوة المربي أضيق من أن يشغل شيئا منه في مباح لا يجني من ورائه شيئا لقضيته التي تشغله ليل نهار .
وإنه من المباح شراء سيارة ثمينة ذات منظر جذاب بطولها وعرضها ، ولكن .. لا يدري ذلك المربي القدوة أن وراءه أتباعا ينظرون إليه نظرة المناقض لكلامه الذي كان يقوله لهم ومازال ، عن الزهد وحقارة الدنيا وفتنتها فينخفض مستوى التلقي عند أولئك الأتباع دون أن يشعر المربي
وأشياء كثيرة من المباح نقترفها أمام من نربيهم ، ثم نشتكي من سلبية ( غير أصلية ) طرأت عليهم
دون علمنا بأننا من المتسببين في نشؤ السلبية بسبب سهو عن محاسبة دائمة للنفس حتى تكون في حمى مما توشك أن ترتع فيه من مزالق .
فعلى المربي أن يعي أنه تحت رقابة دقيقة ممن يقوم بتربيتهم ، فيحاسب نفسه على كل كلمة أو تصرف صغر أم كبر ، حتى يتجنبه في مرات أخرى وحتى يكون على مستوى القدوة الذي لا يحيد عنه ، وهذا لا يتأتى إلا بمحاسبة دائمة مع شعور دائم بأنه موضع قدوة .
كما اننا لا نستغرب عندما يطلق (ابن الحاج) على الخطورة التى تترتب على ذلك (السم القاتل)
و يعلل ذلك بأن (الغالب علي النفوس الاقتداء فى شهواتها و ملذاتها و عاداتها أكثر مما تقتدي به فى التعبد الذى ليس لها فيه حظ 0 فإذا رأت ذلك من عالم و إن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة، تقول لعل لهذا العالم ،العلم بجواز ذلك لم نطلع عليه أو رخص فيه العلماء فإذا رأت من هو أفضل منها فى العلم و الخير يرتكب شيئا من ذلك ، فأقل ما فيه من القبح (الاستصغار و التهاون) بمعاصي الله تعالى المدخل لابن الحاج 1/107 .
و المربون يريدون أن يروا فيمن يقومون على تربيتهم المعاني السامية الذين يتكلمون عنها، هم لا يريدون من يقول لهم خذوا قولى واتركوا فعلي ،بل يريدون رؤية أفعال تطابق أقوال .
و فى سيرته - صلى الله عليه و سلم - جملة من الحوادث و الأمثلة ظهر فيها كيف استخدم صلى الله عليه و سلم القدوة الحسنه فى تربية أصحابه – رضي الله عنهم – كأسلوب متميز عن باقي الأساليب الدعوية .
* ففي صلح الحديبية وبعد أن فرغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – من قضية الكتاب قال للصحابة – رضي الله عنهم – ( قوموا فانحروا ، ثم احلقوا )
يقول الراوي : ( فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة : يا رسول الله : أتحب ذلك ؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنتك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنته ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ) زاد المعاد لابن القيم 3/295 .
من هذا المثال يتبين لنا مدى فاعلية التربية الصامتة في تربية الأتباع .
* كذلك ينبغي للمربي أن يوضح بعض التصرفات التي يقوم بها- لاسيما التي تحمل التأويل السيء- لمن يربيهم مع اهتمام المربي بتفعيل مبدأ حسن الظن في المجتمع المسلم مع من يقوم على تربيتهم .
فقد يضطر المربي أحيانا إلي أن يتكلم مع امراة من محارمه أمام المتربى فإن لم يوضح له تلك التصرفات ، فإن ذلك سيجعله يطبق تماما ما رأى من قدوته ظانا أن ذلك هو الصواب .
ولم تفت على مربي الرعيل الأول - صلى الله عليه وسلم – أهمية هذا الأمر فعندما جاءت صفية – رضي الله عنها – زوج الرسول – صلى الله عليه و سلم – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- تزوره فى اعتكافه فى المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي – صلى الله عليه و سلم – معها يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال لهما النبى صلى الله عليه و سلم :" على رسلكما إنما هى صفية بنت حي " فقالا سبحان الله يا رسول الله ، و كبر عليهما ، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم - : ( إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم ، و إني خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا ) فتح البارى 2035.
يقول ابن دقيق العيد ( و هذا متأكد فى حق العلماء و من يقتدى به فلا يجوز أن يفعلوا فعلا يوجب سؤ الظن بهم و إن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى ابطال الانتفاع بعلمهم ، و من ثم قال بعض العلماء : ينبغى للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا للتهمة )
فتح البارى 4/280
* وفي حنين ، وجنود المسلمون يفرون والأعداء يرشقونهم بالنبل
هل كان قائدهم ومربيهم يكتفي بوعظهم بالثبات في مثل هذا الموقف ؟ إن مئات الكلمات والمواعظ والخطب الرنانة في الثبات لا تفعل فعله صلى الله عليه وسلم لا سيما والجنود في حالة من الخوف والهلع . إنهم في حاجة في مثل هذا الموقف إلي القائد المربي القدوة الذي يرجعهم إلي الجادة التي انحرفوا عنها .
فهذا هو العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه – شاهد عيان يروي ماذا فعل القائد القدوة المربي في ذلك الموقف الحرج قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامى ، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار ، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكفها إرادة آلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال عباس – وكان رجلا صيتا – فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة . وفي رواية فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) مسلم 1775 ، 1776 .
وماذ كانت نتيجة هذا الموقف من النبي – صلى الله عليه وسلم – القائد المربي
يقول العباس : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يالبيك يا لبيك ) .
إن مسؤلية القائد المربي مسؤلية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى وأمام أتباعهم .. فلا ينبغي له أن يتوارى في المواقف التي ينبغي أن يظهر فيها سواء في حل المشاكل أو فيما يتعلق بمواجهة الناس في أي أمر من أمور الدعوة ، فلقد كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس سباقا في شدائد الأمور فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راجعا وقد سبقهم إلي الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول ( لم تراعوا لم تراعوا )
إن المرء ليقف مشدوها لهذه الشجاعة النادرة ، ينطلق الناس قبل الصوت مجرد سماعهم له ، فيجدون القدوة المربي قد سبقهم بل وقد رجع وهم في بداية الانطلاق ، إن هذه الدعوة الصامتة للشجاعة هي التي خرجت أعمى كابن مكتوم – يصر على الجهاد ويحمل الراية ويقاتل حتى يقتل ، وهي التي خرجت أعرج – كعمرو بن الجموح – يبكي لأنه أعفي من الجهاد ثم يطلب بإلحاح مشاركة المجاهدين ويقول ( إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ويقاتل حتى يقتل .
إن القدوة الأولى المتمثلة في المربي الأول محمد – صلى الله عليه وسلم – هي التي خرجت أجيالا على مر العصورعرفنا من خلالها معنى الصبر والتحمل والشجاعة .
فهذا هو يوسف بن يحي البويطي ، خليفة الإمام الشافعي ، ( وكانت الفتاوى ترد على البويطي من السلطان ، فمن دونه وهو متبوع في صنائع المعروف كثير التلاوة ، لا يمر يوم وليلة غالبا حتى يختم ، فسعى به من يحسده وكتب فيه إلي ابن أبي دؤاد بالعراق فكتب إلي والي مصر أن يمتحنه أى يسأله هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق وهي بدعة المعتزلة ، وكان على رأسهم ابن أبي دؤاد – فامتحنه فلم يجب أي بخلق القرآن – فقال له : قل فيما بيني وبينك ، قال : ( إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى ) وكان أمر أن يحمل إلي بغداد في أربعين رطل حديد – يقول الربيع صاحب الشافعي – ولقد رأيته على بغل وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة حديد وهو يقول – إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق ، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ) طبقات الشافعية 1/275
* بل إن التجرد من عبودية العبيد وعبودية المال والاخلاص لله صفة لازمة للداعية المربي ومن دون ذلك يصبح من المتعذر عليه أن ينشأًَ جيلا من الدعاة إذ أن الناس جبلوا على اتباع المتجرد الذي لا ينوي بعمله إلا وجه الله .
جاء في ترجمة الخطيب البغدادي ، أنه ( دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير فقال للخطيب فلان يسلم عليك ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك ، فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي : كأنك تستقله ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال : هذه ثلثمائة دينار ، فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد ) طبقات الشافعية 3/14 .
وحركة ( نفض السجادة ) التي لم تستغرق دقيقة واحدة من الخطيب ، ربت أتباعه الذين كانوا في المسجد على معاني العزة وحقارة العبودية لغير الله ، ظهرت في قول أحدهم ( ما أنس عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها )
طبقات الشافعية 3/14
ولنعلم أن نصر الله منوط باستقامة حملة الدعوة قادتها ومربيها وتلك نقطة قد نغفل عنها أحيانا حيث نركز على صحة أفكارنا وما نقدمه للناس ثم تدور في نفوسنا التساؤلات : لم لا ننتصر إذن !
مع أننا لو تأملنا في كتاب الله لوجدنا فيه إناطة النصر للمؤمنين بما يتصفون به في ذواتهم وما يفعلونه لا مجرد ما يقولونه للناس .
وبعد فما أردنا من هذا العرض إلا اخراج بعض المعاني التي غارت في الأرض ، ليتذكر فيها من نسي من مربينا ويعلم فيها من جهل أهمية القدوة في عملية البناء التربوي .
القدوة وأثرها في المربين
لصاحبها :عصام خضر (صيد الفوائد)