دفتر الهمسات
السماء تمطر سيولا جارفة تجر معها كل شيء من بقايا أوراق الشجر وقصاصات الورق وأكياس البلاستيك السوداء...
بين الرمشة والأخرى يصعق الرعد بقوة ويرسل البرق وميضا منذرا بقدوم شتاء بارد .
عاد إلى مكانه .. دنا مكن المسجل يدير شريطا لسيدة الطرب العربي (ياحبيبي كل شيء بقضاء )، رشف بين شفتيه سيجارة وانطلق ينسج خيوطا وحلقات وهمية من دخان تتلاشى بسرعة في الهواء ، يطلق العنان لخياله هائما في متاهات الوجود باحثا عن مرفأ يرسو عنده .
يتساءل : ماذا بقي من رماد الروح ؟ ماذا بقي من دفء الشمس وعطر الأقاحي ؟
أمكنة خالية.. طلول منسية .. نار متأججة وشوق يتألم ، جريح يفتش عن رغبة في التلاقي وهمسة الانعتاق من لهيب جمر اللوعة والفراق .
لكن هيهات ...
عاد مرة أخرى إلى رسالة (ميسون) ، امسكها بين يديه وواصل حيث توقف من قبل .
عماد:
كم علمتني نداء الحب ونشيد المغرمين .
كم صليت من أجلي صلاة الرهبان في محراب العاشقين.
كم غفرت لي من الزلات والخطايا، كنت على الدوام همس الروح ورعشة القلب، هذا القلب الذي هو اليوم جريح. .مفجوع .
رفع رأسه ، طفق يتأمل في عنان الأفق البعيد ، بنظراته الحزينة يجتر على مضض أوجاعه مع كل متوج العبرات .
أطلق الخطى غارقا في درب التيه، يحملق إلى سماء غزتها الغيوم.
تزاحمت في مآقيه سيول الدمع وتأججت شرارة المواجع كلما فاض نبع الشوق وتلون بشتى ألوان الطيف .
على متن سواقي كلماتها الأخيرة وهمس روحه العليلة جلس شريدا يصارع ألمه الدفين.
ما بين قصاصات الورق المتناثر فوق مكتبه أمسك دفترا اعتاد تدوين همساته على صفحاته ثم قرأ.
يا عمري لمن أشكو همي .
يا عمري لمن احكي عن سهري.
يا عمري لمن أناجي أحزاني.
يا ليلي لمن أكشف أسراري.
يا قلبي لمن أسرد أخباري
... سكن الليل نحو الهزيع الأخير وسكنت معه الحركة ، تمدد كالقتيل على سريره غارقا في بحر التوهان .
الوحدة كبوة يمتطيها عنوة في طلاسم ليل عليل مضمخ بآهات ومواويل تصدح منها تقاسيم حزن مقيت .
تزاحمت الأشجان على أبواب فؤاده وتداخلت الكلمات على جدران الشقاء وتحولت خواطره إلى رماد تذروه رياح الضياع.
يذكر طيفها ، يداعب ذكراها مابين رحلة البوح ومحطات الوحدة والموت مسافرا في غياهب أزمنه أضناها القهر والزيف .
التفت إلى يمينه ، أخذ يرقب رسالة (ميسون) وكأنه يراها لأول مرة ، أمسكها وغاب شاردا ما بين السطور والحروف ..
عزيزي: كنت احلم بصدر يحمل إلينا الأمن والأمان
كنت أحد أسراري الجميلة
كان حبك يهتز بين أضلعي كلما همست لي عيونك بما عجز عنه لسانك.
آه.. لو تكلمت مدن الأحرف لمزقت أوجاعها الورق وحكت لك عن آهات وعن تفاصيل عمري النازف.
عماد.. لو تعلم بأي قلب تسكن، لم تعلم أي شوق تصنع.
لا تسألني عن مصيري ولا عن أحزاني، لا تسألني عن أقداري.
فما أحببت إلا أن تكون أنت كل أقداري.
لكن هيهات .. هي الدنيا .
سلام.. ميسون .
إنها آخر الكلمات من آخر رسالة خطتها أنامل (ميسون) له منذ عشر سنين .
كانت كلمته الندية التي صنعت في حياته مزارعا من الحروف والسطور .
كانت روحا تتملكه في غمرة الإحزان الأفراح .
كانت نبع حنانه من أخبار السنين.
بقلم لقيصر – مدريسة