نزار قباني / جمال عبد الناصر/ وقصيدة - هوامش على دفتر النكسة –
يروي نزار قباني بنفسه كيف نجا من أزمة قصيدته التي أثارت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.. ويسجل شهادته للتاريخ
فيقول :
ـ أجد أن الأمانة التاريخية تقتضيني أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبد الناصر موقفا لا يفقه عادة إلى عظماء النفوس و اللماحون و المرهبون الذين انكشفت بصيرتهم وشفت رؤيتهم فارتفعوا بقيادتهم و تصرفاتهم إلى أعلى مراتب الإنسانية و السمو الروحي .
فلقد وقف الرئيس عبد الناصر إلى جانبي يوم كانت الدنيا ترعد و تمطر إلى قصيدته ( هوامش على دفتر النكسة ) و كسر الحصار الرسمي الذي كان يحاول أن يعزلني إلى مصر بتحريض و إيحاء من بعض الزملاء الذين كانوا غير سعداء لاتساع قاعدتي الشعبية في مصر فرأوا هي استعداء السلطة على حتى طالب وزارة الإعلام بمقال نشره في المجلات القاهرية بحرق كتبي و الامتناع عن قصائدي المغناة من القاهرة ووضع اسمي على قائمة من دخول مصر .
ـ حبن شعرت أن الحملة خرجت من النقد و الحوار الحضاري ودخلت الوشاية الرسمية قررت أن مباشرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر .. وبعث إليه بالرسالة التي قام بتوصيلها للرئيس كاتب احمد بهاء الدين وهذا هو نص الرسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر:
في هذه الأيام التي أصبحت فيها رمادا و الأحزان من كل مكان يكتب إليك شاعر عربي يعترض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.
و تفصيل القصة أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها ( هوامش على دفتر النكسة ) خلاصة وتمزقي وكشف فيها مناطق في جسد أمتي العربية أن ما انتهينا إليه لا يعالج الهروب وإنما الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا .
وإذا كانت صرختي حادة وجارحة وإنا سلفا بأنها ذلك الصرخة تكون بحجم الطعنة ويكون بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران ؟
من منا لم يخدش السماء باضافره ؟
من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض ؟
إن قصيدتي محولة لإعادة تقييم أنفسنا بعيدا أن التبجح و الانفعال و بالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد بملامحه و تكوينه عن فكر ما قبل 5 حزيران
إنني لم اقل أكثر كما قاله غيري ولم اغضب أكثر ما اغضب غيري وكل ما فعلته إنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي.
وإذا سمحت لي الرئيس أن اكونا كثر وضوحا قلت إني لم أتجاوز قصيدتي أفكارك في النقد الذاتي يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف و أمانة حساب المعركة وتعطي ما لقيصر وما لله.
إنني لم اخترع شيئا من عندي العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح .
وماذا تكون قيمة الأديب عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا ؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج ينسج المجتمع وينافق له ؟
لذلك أوجعني الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر يفرض حصار رسمي على اسمي شعري في الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها.
والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر لكن القضية أعمق وابعد.
القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده ؟ حرا إن نصف حر ؟ شجاعا أم جبانا ؟ نبيا أم مهرجا ؟
القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافز الفكر لأنه تفره بالحقيقة.
قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس ارجوا أن تقراها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية و تقتنع برغم الكلمات و مرارتها بأنني كنت انقل عن الواقع بأمانة وصدق وارسم صورة الأصل الشاحبة و المرهقة .
لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق الوقوف على الحياد فحياد الموت أدب له وموت له .
لم يكن بوسعي أمام جسد أمتي المريض أعالجه بالأدعية و الحجابات و الرضاعات .
فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس يطرح جراحها بالكحول ويكوي – إذا لزم الأمر – المناطق مصابة بالنار .
سيادة الرئيس إنني اشكوا لك الموقف العدائي الذي تقفه منى السلطات الرسمية في مصر متأثرة بأقوال بعض الكلمة و المتاجرين بها وأنا لا اطلب شيئا أكثر من سماع صوتي والمطلوب أن يسال عن سبب صلبه .
لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار فانا اشتم في مصر ولا احد يعرف لماذا اشتم وأنا بوطنيتي وكرامتي لأنني كتبت قصيدة ولا احد قرأ حرفا من هذه القصيدة .
لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية و أثارت جدلا كبيرا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا فلماذا احرم من هذا الحق في مصر وحدها ؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها .
يا سيدي الرئيس
لا أريد أن اصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه والمجروح على جراحه و يسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وامته فدفع ثمن صدقه و شجاعته .
يا سيدي الرئيس
لا اصدق أن يحدث هذا في عصرك.
ويقول نزار قباني:
ولم يطل صمت عبد الناصر ولم تمنعه مشاكله الكبيرة وهمومه الذي تجاوزت هموم البشر من الاهتمام برسالتي فقد روي لي احد المقربين منه انه وضع خطوطا تحت أكثر مقاطع الرسالة وكتب بخط يده التعليمات الحاسمة التالية:
ـ 1- لم اقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلى وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها.
ـ 2ـ تلغي كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطا بحق الشاعر ومؤلفاته ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة.
ـ 3ـ يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد ويكرم فيها كما كان في السابق.
بعد كلمات جمال عبد الناصر تغير الطقس وتغير اتجاه الرياح و تفرق المشاغبون و انكسرت طبولهم و دخلت ( الهوامش ) ألفى مصر بحماية عبد الناصر ورجعت أنا إلى القاهرة مرة إلى المرة لأجد شمس مصر أكثر بريقا ونيلها أكثر اتساعا ونجومها أكثر عددا.
إنني اروي هذه الحادثة التي لا يعرفها إلا القلة من أصدقائي لأنها تتجاوز دائرة الأسرار الخصوصية لتأخذ شكل القضية العامة.
فقضيتي مع الرئيس جمال عبد الناصر ليست قضية شخصية أي علاقة بين قصيدة ممنوعة وبين رقيب يمنعها أنها تتخطى هذا المفهوم الضيق لتناقش من الأساس طبيعة العلاقة بين من يكتب ومن يحكم بين الفكر وبين السلطة .
فالعلاقة بين الكتابة و بين الحكم علاقة غير سعيدة لأنها علاقة قائمة في الأصل على سوء الفهم وانعدام الثقة لا الكاتب يستطيع أن يتخلى عن غريزة الكلام ولا الحاكم يقبل أن يسمح صوتا غير صوته وإذا قبل أن يستمع فلا يطهر به إلى صوت الكورس الرسمي .
ومنذ القديم كان الكلام يقف في جهة و المقصلة تقف في الجهة المقابلة ومع هذا لم يتوقف الكلام ولم تتعب المقصلة.
و فيما يتعلق بالحاكم العربي فقد تعود ـ وراثيا ـ أن ينام على سرير من قصائد المدح و الإطراء وان تحمل إليه أشعار الشعراء على صوالي الفضة .
انه مقتنع ـ بحكم العادة ـ انه شمس وانه كوكب وانه ممطر كالسحاب و كريم البحر ( فليتق الله سائله )
و الحاكم العربي الحديث هو ابن أبائه يحمل ملامحهم النفسية ونقاط ضعفهم وقناعاتهم بالتفرد والعصمة ولا يتصور أن في قاموس الحكم كلمة ( لا ) لان أذنه أدمنت كلمة ( نعم ) ورنينها السحري .
لقد كسر الرئيس عبد الناصر بموقفه الكبير جدا الخوف القائم بين الفن و بين السلطة بين الإبداع و بين الثورة.
واستطاع أن يكتشف بما أوتي من حدس و شمول في الرؤية إن الفن و الثورة توأم سياسي ملتصق وحصانان يجران عربة واحدة وان كل محاولة لفصلهما سيحطم العربة و يقتل الحصانين.
لقيصر- مدريسة -